الصراع حول الديمقراطية

لقد إشترك النظام والإسلام السياسي كل بطريقته على إرجاء موعد الجزائر مع الديمقراطية وتحويل مسار التغيير الذي تلى أحداث أكتوبر 1988 نحو الإرهاب الأصولي الأعمى بوسائله والبصير بأهدافه من جهة, والإستبداد الجاثم على صدر الدولة والمصادر لمصالح الأمة من جهة أخرى. لقد كان لهذا الوضع إستتباعات عديدة رسمت خريطة المشهد السياسي الراهن بما يحمله من إمكانات وإرتكاسات, تجعله ينفتح على مستقبل قد يهتدي بوعد أو يجور بوعيد.رغم ما أصاب المجتمع الجزائري من عنف قل مثيله كاد أن يعصف بوجوده, وهنا أخص بالذكر الإرهاب الإسلاموي ,ورغم القمع المتواصل للسلطة والمسند بسياسة إقتصادية مكلفة إجتماعيا ألقت بشرائح واسعة من المجتمع في غياهب البؤس و الفاقة, فإن الحيوية المطلبية والروح الإحتجاجية الديمقراطية النفس لا تزال تسري في عروقه مظهرا قدرة عجيبة على الصمود. بل وفعالية أجبرت السلطة على التكيف عن طريق التنازل و التراجع عن بعض مواقعها.لا بد أن نقرن فشل المشروع الإسلاموي الظلامي في تقويض دعائم الجمهورية بهذه القدرة على الصمود ,والتي تخلقت في رحم نوفمبر .إن لبنات الصرح الديمقراطي هي هذه الحيوية المتنامية الواجب صقلها بوعي سياسي, والذي لا نراه إلا إستكمالا لما لم يكتمل مع نوفمبر وتجاوز للذي تقادم منه وصار أضيق من متطلبات المرحلة .إن مساحة المطالب اصبحت ارحب من تلك التي إستصلحها النظام ومن مطامح المعارضة أو من تتسمى بالمعارضة التي لا تزال تراوح ذات المكان .مكان تحتويه جغرافية النظام الذي تدعي مناكفته.

أصبحت الديمقراطية كمفهوم محل صراع بين الأطراف المتنازلة على الحلبة السياسية. يحاول كل منها ترويضها وإقحامها في حقله الدلالي وكأنها أشتقت منه إشتقاقا.فإذا كانت السلطة ترادف بين التعددية الصورية في القول دون الفعل والديمقراطية, أي التعددية الحزبية المنفكة عن جميع مستلزماتها وبالأخص مسألة التداول على السلطة, فإن الإسلاموية تخرج المفهوم من سياقه التاريخي الذي تشكل ضمنه على الصعيد السياسي, وأعني العلمنة.فالسياسة لم تعد تعني بشأن الخلاص بل بشؤون الناس الآنية المتعددة والمتناقضة ,وهو ما أسس للديمقراطية كضرورة لإدارة الصراع بشكل سلمي لرأب الصدوع المؤدية إلى الإحتراب.غير ان المندس الخفي والطارد المتئد لجميع المدلولات التي تحول دون توسعه والمحرف للعملية الديمقراطية ,هو السوق كإديولوجيا .فقد إقترنت الدمقرطة في مدلولها المتداول باللبرلة في شكليها السياسي والإقتصادي.
يعمل النظام السياسي في الجزائر على بناء منظومة قيمية جديدة, أو بالأحرى على محو كل ما يمت بصلة مع المنظومة القديمة .غير أن هذا التحول محسوب على الإرادة الهيمنية للنيولبيرالية التي تواجه صعوبة في حسم الأمور لصالحها أمام مقاومة المجتمع الأعزل إيديولوجيا والمسلح بذاكرة الثورة التحريرية, وما تم الحصول عليه من مكتسبات في فترتي الستينات و السبعينات.إن بدايات الهدم بدأت مع تولي الشاذلي بن جديد للحكم, والذي أظهر رغبة جامحة في التحالف مع الإسلاموية التي رأى فيها أداة ناجعة لوأد الإيديولوجيا الوطنية الحاملة لجينات المقاومة حيال مشروعه اللبيرالي .لقد تضافرت آنذاك إرادة السلطة, وجهود الإسلاموية ,وبوادر الأزمة نتيجة إنهيار أسعارالنفط ,وظهور طبقة طفيلية إستفادت من خصخصة الريع على الإطاحة بالشرعية التاريخية وبالتالي, على إنجراف الإيديولوجيا الوطنية.إستمرت الأمور في التدهور مع بروز ظاهرة الإرهاب الإسلاموي, لتأتي فيما بعد البوتفليقية الناسفة حتى لبعض مكاسب اكتوبر 1988مؤسسة لمرحلة التحول النيولبيرالي المندرج ضمن منطق الردة الشاذلية.إنها محطات لا نرى فيها إلا محاولات تجفيف منابع المقاومة عند الشعب الجزائري السياسي جدًا.تحاول المنظومة الجديدة فبركة توافق خارج إطار العقد الديمقراطي الحقيقي, المؤسس على قيم المواطنة الشاملة المغذاة بروح نوفمبر التحررية.فيبنى النقاش السياسي حول المسألة الديمقراطية, بمنأى عن الحقوق الإجتماعية الإقتصادية وما تقتضيه من خيارات إقتصادية . تقحم هذه الأخيرة في دائرة المعقولية التقنية الموضوعية العارية من كل لباس إيديولوجي.وكأن للسلطة السياسية وجهين, أحدهما حقوقي يعنى بمسألة الحقوق السياسية والمدنية, وهو بمثابة عالم الإمكان, وأخرإقتصادي تقني وعلمي همه إنتاج الثروة وتوزيعها, هو عالم الضرورة والحوكمة الرشيدة. تحاول السلطة عبرالإشتغال على مستويي المؤسسات والقوانين, حصر النشاط السياسي داخل مجال لا يشكل أي خطر على إستقرارالمصالح السائدة . فالنيولبيرالية أو اللبيرالية في شكلها المستحدث ,لا تحجم فقط حيز السياسي ممارسة, بل وكذلك المفكر فيه سياسيا .إضافة إلى هذا التحريف يدمج في الجزائر تحت يافطة التعاقد المجتمعي, القطب السلبي لجدلية الصراع من أجل القطيعة الديمقراطية الذي إخترق المجتمع والدولة ,وأعني به الإسلاموية الحاشدة لكل ميراث التخلف والمعاداة للعقل والتقدم بوجهيه التراثي والحداثي .تقبل السلطة بهذه التسوية على أساس أن الإسلاموية قد تم تقليم مخالبها وإستدراجها إلى مربع علاقات القوة الجارية, وتقبل في نفس الوقت الإسلاموية الإنضواء تحت قبة السلطة ,مقابل بقائها, وبالتالي تحييد مخزون القطيعة في المجتمع, عدوهما المشترك.

السؤال الذي يلقي بثقله ونحن نخوض في مسألة الديمقراطية في الجزائرهو كالتالي :كيف لنا أن نتناول مخاطر الإنزلاق نحو إختزال الديمقراطية ونحن لا زلنا نواجه الإستبداد؟هل مانواجهه حاليا هو خطرإبتسار الديمقراطية أم أزمة تغييبها؟في واقع الأمر إن رهان الإستبداد في الجزائر هو الديمقراطية.أي أن منتهى المرحلة الإنتقالية المدارة بيد من حديد من قبل السلطة ,هوإحلال نظام تعددي تتحدد معالمه بعلاقات الهيمنة المحددة خلال هذه المرحلة. يعمل الإستبداد على أن يكون مصفاة لتشكيل المستقبل السياسي للجزائر. يتقدم النظام بإصلاحات وثيقة الخطى يحاول عبرها إدماج الجميع داخل هذا المسار بلغة العصا وبشعار التوافق.إن النقاش الدائر حاليا حول مسألة التوافق والإنتقال الديمقراطي يعبر عن رغبة كل طرف سياسي أن يشغل موقعا يؤمن له نصيبا من الكعكة .هذا ما يفسر رغبة المعارضة في المحافظة على مسافة قريبة من النظام بتركيزها على مسألة التوافق, وحصرها للأزمة في شخص الرئيس بوتفليقة. فتماهي بين النظام و شخص الرئيس و تتجنب الخوض في طبيعة الأزمة.ناهيك عن ذلك, فإنها تتعاطى مع الواقع المتجدد بأدوات عتيقة ,وتنظر إلى الحاضر والمستقبل بعيون الماضي .فإذا كانت السلطة تحمل الإسلاموية على القبول بدور ثانوي داخل اللعبة السياسية تريد المعارضة أن يكون لهذه الأخيرة دورا محوريا , فترهن بموقفها مستقبل الديمقراطية في البلاد.إن صراعات الحاضر تصنع تقاسيم المستقبل.تستميت الإسلاموية في الدفاع عما تبقى لها من مواقع حتى وإن ترتب عليه الدخول في تحالفات غير طبيعية كتلك الموجودة داخل التنسيقية من أجل الإنتقال الديمقراطي .في نفس السياق تحاول أغلب القوى الديمقراطية الإستقواء بإصلاحية النظام أوبالتنازلات الوقتية للإسلاموية بغرض تعويض ما خسرته أو ما فوتته من فرص منفصلة بذلك عن جذرية المجتمع .
إن الحركية الحزبية عاجزة عن الإلتصاق بالفوران الإجتماعي .تفسر هذه المسافة, بالإختلاف الجذري في تمثل دور الدولة, وبالتالي المضامين التي تحدد المنظومة الديمقراطية المبتغاة.فإذا كان هدف المجتمع هو تحويل الدولة إلى سلطة ووعي وإرادة جماعية مسؤولة عن المصلحة العامة, ومكلفة بخلق ورعاية التكافل. فإنها ستتحول بلغة أغلبية النخب السياسية إلى موقع للتسيير, يسري عليه ما يسري على المؤسسة الإقتصادية المعنية أساسا بتحقيق هامش ربح بأقل كلفة ممكنة .وفق هذا المنطق تغدو الديمقراطية تعبيرا عن تدفق النخب على الدولة, و السياسة إدارة أعمال المصالح السائدة.فتختزل في بعدها الصوري دون العناية بالآثار التي على الديمقراطية تحقيقها في حياة المواطن الجزائري.إن الطلاق بين الجانبين الصوري والعملي أنتج خطابا ديمقراطويا أراد وأد الجمهورية في تسعينيات القرن الماضي بإسم شرعية إنتخاب حزب الفيس الفخور بعدائه للديمقراطية ,وهو نفس الموقف الذي يفاضل بين الرجل والمرأة بإسم الإجماع الديمقراطي على الثوابت
إن القطيعة من أجل تجذير الديمقراطية بأبعادها السياسية والإجتماعية الإقتصادية و الثقافية لن تتحقق إلا بالخلاص من النظام النيولبيرالي القائم على الإستبداد والتسوية مع الإسلاموية .على التغيير أن يمس بنية النظام وشبكة المصالح التي يرعاها ويعمل على شرعنتها .يجب المرافعة من أجل إقتصاد منتج محوره العمل الخالق للثروة.علينا أن نعتبر الطبقة الطفيلية المضاربة المشغولة بنهب الثروة وتكديسها بالخارج ,وبارونات المال و الإقتصاد الموازي, الأعداء الموضوعيون للديمقراطية.علينا ان نعتبر الإسلاموية النقيض الأنطولوجي للحداثة, الشرط الجوهري للديمقراطية.علينا أن ندرك حق الإدراك ان أي إنسحاب للدولة من العملية الإقتصادية بحسب الطرح اللبيرالي, سيخل بالعملية الديمقراطية ويحرف أهدافها الإنسانية.إن أي توافق لا يفضي إلى القطيعة مع شروط نفي تحقق الديمقراطية سيعيد إنتاج النظام بثوب جديد.

غراس فتحي

Votre commentaire

Entrez vos coordonnées ci-dessous ou cliquez sur une icône pour vous connecter:

Logo WordPress.com

Vous commentez à l’aide de votre compte WordPress.com. Déconnexion /  Changer )

Photo Facebook

Vous commentez à l’aide de votre compte Facebook. Déconnexion /  Changer )

Connexion à %s